ذكرنا في المدونة السابقة القسم الأول من الذكاء الاصطناعي وهم الرمزيون والذين بدأ بعضهم يشعر بالملل من هذا التوجه وفكروا في أنهم ربما كانوا في الطريق الخطاء. وذلك مع ظهور فريق يرى أن الذكاء (الاستنتاج والاستنباط والتنبؤ Prediction and inference) لارمزي non-symbolic. ويضربون مثلا، لو أنك رأيت صديقك في الطريق، فستعرفه حتى لو كان بمظهر لم يسبق لك أن رأيته به. ولو رأيت شبيها به فستسطيع أن تميز الفرق لكن سيظهر لك الشبه وهو نسبي. ومن هنا فالعقل يعمل بطريقة لارمزية. وهذه فعلا أحد خصائص العقل البشري التي لم يلتفت لها كثير من الرمزيين وهي معروفة عند علماء الأعصاب بـ univariate representation. وكان أقرب طريقة لهذا النوع من الذكاء هو الإحصاء وعلى وجه الخصوص (الاحتمالات Probability) وذلك لسببين رئيسيين، من وجهة نظري، أولا: أن الاحتمالات تعطي نسبة (ثقة confidence) محددة، مثلا، 90%. ثانيا: أن الاحتمالات تبنى على (بيانات Data) وتسمى غالبا في الاحصاء (العينة population). وهذه اللفتة الذكية من هذا القسم، أعني اللفته للاعتماد على البيانات فتحت المجال لبحر جديد من الذكاء الاصطناعي، ألا وهو (تعلم الآلة Machine Learning). وتعلم الآلة هو أن تقوم الآلة بالتعلم من الخبرة السابقة عن طريق البيانات المتاحة لديها. مع العلم أن هذا المصطلح Machine Learning كان موجودا من خمسينيات القرن الماضي وأول من استخدمه هو العالم (آرثر سامويل Arthur Samuel) والذي أنتج أول لعبة ذكية Computer Checkers.
مايهمنا هنا هو أنه في بداية الثمانينات بدأ فريق آخر من العلماء باستخدام البيانات، بينما كان الرمزيون يستخدمون (القواعد Rules) وعليه فإن اللارمزيون كان الذكاء لديهم عن طريق (التعلم الغير محدد Non-deterministic Learning) وهو بعكس التعلم المحدد الذي ذكرناه في المدونة السابقة.
وعليه فإن هذا القسم هو البداية الحقيقية للذكاء عن طريق تعلم الالة، فالرمزيون لم يكن الذكاء يعتمد مطلقا على التعلم بل على الرموز والقواعد المعرفة مسبقا.
أنا هنا لا أفضل قسم على آخر لكني أسرد فوارق وسياق تاريخي بحت.
هذا القسم في المجمل مكون من أربعة فروع كبيرة وسنسرد هذه الأقسام الأربعة كأقسام مستقلة من علم الذكاء الاصطناعي.
المهم أنه في هذه المرحلة بدأ الباحثون في القسم الجديد يعانون من مشكلة كبيرة وهي أنهم لم يستطيعوا أن ينشروا أبحاثهم بسهولة وشعروا أنهم لم يكونوا يحصلون على الاهتمام الكافي الذي يعتقدون أنهم يستحقونه. ولذلك فقد قرروا بأن يبدؤوا بورش عمل ونشر كتب Edited books خاصة بنتاجهم العلمي ثم أتفقوا على تأسيس مجلة علمية اتفقوا ان يطلقوا عليها ( تعلم الآلة Machine Learning)، والتي كان أول ظهور لها في عام 1986. وكان أول محرر تنفيذي لها هو بات لانقلي الذي ذكرناه في مدونتنا السابقة، وكان وقتها استاذا في (جامعة كاليفورنيا، أرفاين University of California, Irvine) أو مايطلق عليها اختصارا UCI. وهي الجامعة التي دعمت انطلاق كثير من علماء تعلم الآلة في ذلك الوقت ودعمت المجلة بشكل كبير. ولعل كثيرا من المهتمين بعلوم الذكاء الاصطناعي اليوم يعرفون هذه الجامعة جيدا. هل تعرف لماذا..؟ لأن أحد طلابها في ذلك الوقت واسمه (ديفيد آها David Aha) جمع بيانات كثيرة ونشرها في مستودع يعرفه الكثير اليوم باسم (مستودع UCI لبيانات تعلم الآلة UCI Machine Learning Datasets repository).
وهنا نبين جزء من الفوارق بين الرمزيين من جهة واللارمزيين (الأربعة الأقسام الأخرى) من جهة ثانية. وأول هذه الفوارق هو أن اللارمزيين يعتبرون أن الذكاء نتيجة المعرفة والتي هي بدورها نتيجة التعلم المبني على تراكم الخبرات (في هذه الحالة ضرورة وجود بيانات سابقة Historical Data). بينما الرمزيين لايعتمدون على التعلم لإيجاد المعرفة. وثاني هذه الفوارق، وهو ما أثار كثيرا من الجدل بين علماء تلك المرحلة، هو استخدام الإحصاء أو (النماذج الإحصائية Statistical Models) والرياضيات في الاستنتاج والتنبؤ والوصول للأهداف. فكانوا يعتبرون أن هذا الطريق يقلل من قيمة العلم الجديد، أقصد الذكاء الاصطناعي. ومنها هو عدم وجود هيكل ادراكي للآلة الذكية لدى اللارمزيين مما يبعدها كثيرا عن محاكاة العقل البشري حسب رأي الرمزيين.
في المدونات القادمة سنتطرق بإ ذن الله لباقي أقسام الذكاء الاصطناعي الأربعة التي تعتبر كلها لارمزية.